دور أبي ذر رحمه الله في الفتوحات
و دور أبي ذر رحمه الله في الفتوحات واحدٌ مما طمسه تاريخ الخلافة الرسمي ! فقد صوروا أبا ذر رحمه الله كأنه بدوي ساذج متزمت سيء الخلق ، و كأنه صغير الجثة ضعيف البنية عن الجهاد ! بينما نطقت ثنايا مصادرهم بالحقائق ، و أنه كان رجلاً جسيماً طويلاً ، و قائداً شجاعاً ذكياً ! ( و كان أبو ذر طويلاً عظيماً رضي الله عنه و كان زاهداً متقللاً من الدنيا ... و كان قوالاً بالحق ) 5 .( و كان أبو ذر طويلاً عظيماً ) 6 .
( رجلاً طويلاً آدم أبيض الرأس و اللحية ) . 7 .
( فجلس ... فرجف به السرير ، و كان عظيماً طويلاً ) 8 .
و كان له فرس أصيل يقال له : الأجدل 9 . و مضافاً إلى الرواية المتقدمة في استنكاره على الأمير الأموي لغصبه الجارية التي تدل على أنه كان في فتح الشام 10 .
فقد قالت رواية الواقدي في فتوح الشام : 2 / 254 : ( ثم حمل من بعده العباس بن مرداس ، ثم من بعده أبو ذر الغفاري ، ثم تبارد المسلمون بالحملة ، فلما رأى الروم ذلك أيقظوا أنفسهم في عددهم و عديدهم و تظاهروا البيض و الدرع ، ولم يزل القتال بينهم حتى توسطت الشمس في قبة الفلك ) .
و قال الواقدي أيضاً : 2 / 583 : ( ثم استدعى من بعده أبا ذر الغفاري ، و أمَّره على خمسمائة فارس ، و سلمه الراية فتوجه و هو يقول :
سأمضي للعداة بلا اكتئاب و قلبي للِّقا و الحرب صابي
و إن صال الجميع بيوم حرب لكان الكلُّ عندي كالكلاب
أذلهمُ بأبيض جوهريٍّ طليقِ الحدِّ فيهم غيرُ آبي ) . انتهى .
بل تدل عدة روايات كما يأتي على أن أبا ذر رحمه الله سكن الشام من أول حكم عمر ، للمشاركة في الفتوحات ، و عاد منها في زمن عثمان ، ثم نفاه اليها عثمان لمدة سنة ، ثم أعاده و نفاه إلى الربذة فبقي فيها سنتين أو أكثر حتى توفي غريباً سنة 32 هجرية . و هذا يعني أنه قضى نحو عشرين سنة في الشام .
أما دور أبي ذر في فتح مصر فقد روت أكثر مصادر الحديث أنه كان يمرِّغ فرسه و يروِّضه ، فسألوه عن حبه له فقال : ( ليس من ليلة إلا و الفرس يدعو فيها ربه فيقول : رب إنك سخرتني لابن آدم و جعلت رزقي في يده ، اللهم فاجعلني أحب إليه من أهله و ولده ، فمنها المستجاب و منها غير المستجاب ، و لا أرى فرسي هذا إلا مستجاباً ) 11 روته هذه المصادر و غيرها ولم تذكر مناسبته مع أنه حديث نبوي ! إلا ثلاثة منها كشفت ربما عن غير قصد دور أبي ذر في فتح مصر !
قال السيوطي في الدر المنثور : 3 / 197 : ( و أخرج أبو عبيدة في كتاب الخيل عن معاوية بن خديج ، أنه لما افتتحت مصر كان لكل قوم مراغة يمرِّغون فيها خيولهم ، فمر معاوية ( يقصد ابن حديج التميمي ) بأبي ذر رضي الله عنه و هو يمرغ فرساً له فسلم عليه و وقف ، ثم قال : يا أبا ذر ما هذا الفرس ؟ قال فرس لي ، لا أراه الا مستجاباً ! قال : و هل تدعو الخيل و تجاب ؟ قال : نعم ، ليس من ليلة إلا و الفرس يدعو فيها ربه فيقول : رب إنك سخرتني لابن آدم و جعلت رزقي في يده ، اللهم فاجعلني أحب إليه من أهله و ولده ، فمنها المستجاب و منها غير المستجاب ، و لا أرى فرسي هذا إلا مستجاباً ) .12 . و في نهاية الإرب : 2036 : ( لما نزل المسلمون مصر كانت لهم مراغة للخيل ، فمر حديج بن صومي بأبي ذر رضي الله عنه و هو يمرغ فرسه الأجدل ، فقال ... )
و أما دوره في فتح قبرص ، فقال البلاذري في فتوح البلدان : 1 / 182 : ( لما غُزيَت قبرس الغزوة الأولى ، ركبت أم حرام بنت ملحان مع زوجها عبادة بن الصامت ، فلما انتهوا إلى قبرس خرجت من المركب و قدمت إليها دابة لتركبها فعثرت بها فقتلتها ، فقبرها بقبرس يدعى قبر المرأة الصالحة .
قالوا : و غزا مع معاوية أبو أيوب خالد بن زيد بن كليب الأنصاري ، و أبو الدرداء ، و أبو ذر الغفاري ، و عبادة بن الصامت ، و فضالة بن عبيد الأنصاري ، و عمير بن سعد بن عبيد الأنصاري ، و واثلة بن الأسقع الكناني ، و عبد الله بن بشر المازني ، و شداد بن أوس بن ثابت ، و هو ابن أخي حسان بن ثابت ، و المقداد ، و كعب الحبر بن ماتع ، و جبير بن نفير الحضرمي ) . انتهى .
أقول : حشروا إسم كعب الأحبار معهم ، لإعطائه لقب المسلم المجاهد ! و كذلك حشروا إسم معاوية بعبارة مبهمة فيها تدليس ( و غزا مع معاوية ) ، مع أن تاريخ كعب و معاوية لم يسجل أنهما حملا سلاحاً و حاربا يوماً ، أو غزيا حتى لمرة واحدة ! و لذا قال في الإستيعاب : 4 / 1931 : ( و يقال إن معاوية غزا تلك الغزاة بنفسه ، و معه أيضاً امرأته فاختة بنت قرظة ) . انتهى .
و يشير النص التالي إلى أن معاوية كان ينتظر الجيش في الساحل بطرسوس !
ففي مسند الشاميين للطبراني : 2 / 73 ، عن جبير بن نفير قال : ( أخرج معاوية غنائم قبرس إلى الطرسوس من ساحل حمص ، ثم جعلها هناك في كنيسة يقال لها كنيسة معاوية ، ثم قام في الناس فقال : إني قاسم غنائمكم على ثلاثة أسهم : سهم لكم ، و سهم للسفن ، و سهم للقبط ، فإنه لم يكن لكم قوة على غزو البحر إلا بالسفن و القبط . فقام أبو ذر فقال : بايعت رسول الله على أن لا تأخذني في الله لومة لائم : أتقسم يا معاوية للسفن سهماً و إنما هي فيؤنا ، و تقسم للقبط سهماً و إنما هم أجراؤنا ، فقسمها معاوية على قول أبي ذر ) 13 .
أما البخاري فروى الحديث بدون ذكر أبي ذر ، و لا أبي أيوب ، و لا غيرهما من الصحابة ! لأن غرضه فقط أن يمدح معاوية بأنه أول من ركب البحر للغزو ، و يروي حديثاً يحتمل أن يكون مدحاً لمعاوية !
قال بخاري في : 3 / 203 : ( أم حرام بنت ملحان قالت نام النبي ( صلى الله عليه و آله ) يوماً قريباً مني ثم استيقظ يتبسم ، فقلت ما أضحكك ؟ قال أناس من أمتي عرضوا على يركبون هذا البحر الأخضر كالملوك على الأسرة ! قالت : فادع الله أن يجعلني منهم ، فدعا لها ، ثم نام الثانية ففعل مثلها ، فقالت مثل قولها فأجابها مثلها ، فقالت ادع الله أن يجعلني منهم فقال أنت من الأولين ! فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت غازياً أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية ، فلما انصرفوا من غزوهم قافلين فنزلوا الشام ، فقربت إليها دابة لتركبها ، فصرعتها فماتت ) . انتهى. و قد صحح ابن حجر و غيره خطأ البخاري في روايته ولم يذكروا معاوية ! قال في تهذيب التهذيب : 12 / 411 : ( و الصحيح العكس ، فقد قال غير واحد و ثبت غير واحد أنها خرجت مع زوجها عبادة في بعض غزوات البحر ، و ماتت في غزاتها وَ قَصَتْها بغلتها عندما نقلوا ، و ذلك أول ما ركب المسلمون في البحر في زمن معاوية في خلافة عثمان . زاد أبو نعيم الأصبهاني و قبرت بقبرس . قلت : و الإسماعيلي في مستخرجه عن الحسن بن سفيان عن هشام بن عمار قال : رأيت قبرها و وقفت عليها بقبرس ) . 14 و في تهذيب التهذيب : 12 / 82 : ( ركبتْ البحر عام قبرس ، مع ثلاثة عشر رجلاً من الصحابة ، منهم أبو ذر ) .
أقول : يصعب تصديق حديث بنت ملحان و أمثاله ، الذي يذكر أن النبي صلى الله عليه و آله كان يزورها كأنها والدته أو خالته ، و ينام في بيتها و يرى رؤية تتعلق بها ! و أنها كانت تفلي رأسه كابنها أو أخيها ، و كأن رأس النبي صلى الله عليه و آله فيه قمل كرؤوس رجالهم ! 15 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق